• 2022-08-19

في الحض على تعلُّم العربية وإعراب القرآن وذم اللحن - 2

هلَّ على العرب نور الإسلام، فآمنوا به، وحملوه إلى الناس، واستقبله الأعاجم مؤمنين به، فوقعت المخالطة والمصاهرة بينهم، فتداخلت الألسُن، وشابت العربية ألفاظ وتراكيب أعجمية. ولما كان العرب قد خالطوا الأعاجم بعد دخولهم في دين الله أفوجاً تأثر بعضهم بهم فوقعوا في اللَّحن، وفسَدت الألسنة.
كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيدالله ابنه، فلما قدِم عليه كلَّمه فوجده يَلْحَن، فردَّه إلى زياد، وكتب إليه كتاباً يلومه فيه، ويقول: "أمِثْل عبيدالله يُضَيَّع؟". فانظر كيف عدَّ اللحن ضياعا! ولاشك أن سبب رد معاوية ابنه عبيدالله إلى زياد هو أن يقوِّم لسانه، وكثيرا ما كانوا يدفعون بأبنائهم إلى النحويين؛ لتأديبهم وإصلاح ألسنتهم.
هذه الرواية تؤكد الحرص على العربية، والتصدِّي للحن منذ زمن الصحابة. ولقد وقفنا في القسم الأول من هذا المقال على طائفة من الروايات التي وردت في الحث على تعلُّم العربية، وضرورة إعراب القرآن، وتشدُّد الرعيل الأول في ذلك. وتأكيدا لهذا المبدأ العظيم جاءت روايات في النكير على اللحن، وشدة ذمه.
وقد مر بنا - فيما سبق - أن اللحن لفظ من الأضداد بناءً على أصله اللغوي. قال ابن فارس - رحمه الله - في معجمه (معجم مقاييس اللغة) في مادة (لحن): "اللام والحاء والنون لها بناءان: يدل أحدهما على إمالة شيء من جهته، ويدل الآخر على الفطنة والذكاء". وهذان معنيان متضادان؛ فلذلك يُعَدّ هذا اللفظ من الأضداد؛ فإنه يقال: لحن الرجل لحْنا: إذا أصاب، فهذا هو دلالته على الفطنة والذكاء. ويقال: لحن الرجل لحنا: إذا أخطأ، فهذا هو دلالته على إمالة شيء من جهته؛ ويكون الميَلان في النطق أو في الإعراب، أو الخطأ في الدلالة أو نحو ذلك من الأخطاء. وخوفاً على العربية من الميَلان عن الأصل إلى الخطأ عابوا اللحن واللاحنِين، بل كان بعضهم يستغفر لمقتَرِفه، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفى عام 170هـ) - رحمه الله - يستغفر للواقع في اللحن، فقد بلغه أن أيوب السختياني (تابعي من حُفَّاظ الحديث (المتوفى عام 131هـ) لحن في حرف، فقال الخليل: "أستغفر الله"، مستعظِما على أيوب اللحن. وقال أبو الأسود الدؤلي: "إني لأجد للحن غَمَرا كغَمَر اللحم"، (والغَمَر: ريح اللحم. والسهَك، أي: الزفر).
ورُوِي أن كاتباً لأبي موسى كتب إلى عمر - رضي الله عنه - " من أبو موسى"! فكتب إليه عمر: "إذا أتاك كتابي هذا فاجلده سوطاً، واعزله عن عملك". وقيل للحسن: "إن لنا إماما يلحن"، فقال "أخِّروه". وسمع أبوعمرو بن العلاء رجلا يلحن فقال: "لا أراك نذلا بعدُ". ورُوِي عن شعبة يقول: "مَثَلُ صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مَثَلُ الحمار عليه مِخلاة لا علف فيها".
فهذه روايات، وغيرها كثير جداً، في الحرص على السلامة اللغوية، وتعيير اللحن واللاحنين؛ من أجل الحفاظ على العربية، فهي أصل الدين، وبها يفسَّر القرآن الكريم وبها كُتِب الحديث الشريف، وعليها مدار تأويله، وبها جرى تدوين التراث الإسلامي.
والعربية هوية الأمة، وأساس وجودها، فإن ماعت، أو ذابت، فقد ذاب وجود الأمة، واندرس أصلها، وانمحى تراثها! وهل تراثها إلا كتاب الله، وحديث رسول الله، وديوان شعر العرب الذي به يفسَّران؟ واليوم يتفاخر قومنا بإتقان اللغات الأجنبية وبخاصة الإنجليزية مدَّعين أنها لغة العصر ولغة الوظائف! قلنا لا بأس بتعَلُّمها وإتقانها، ولكن بعد إتقان الأصل وإجادة العربية.
وقد كتب الدكتور حامد الإدريسي في بعض مواقع التواصل الاجتماعي يقول: "تحدّث إلى ولدك باللغة الأجنبية منذ طفولته، وستكسبه بذلك ثلاث صفات:
ضعف الهوية، جَلد الذات، التبعية النفسية".
فلا تستغرب إنْ وجدت فيه نفورا عن بيئته، وانفصاما في شخصيته، وعشقا للأجنبي وثقافته، فاللغة أساس الانتماء". وهذا يعني أنه لا يبعد أن تصطرع فيه مشاعر متضادة، قد تُفضِي به إلى اضطراب الشخصية، والمواراة عن بنِي قومه؛ لأنه لا يحسن لغتهم.
حفظ الله الناشئة من بني العرب، وردَّ الشباب إلى أصولهم لغةً وديناً.